لم تخرج تونس بعدُ من عنق الزجاجة، فالأحداث تأخذ في كل مرة منحى جديدا، مع تضييق الخناق على التيار السلفي من قِبل الحكومة، وبروز حركة "فيمن" بشكل واضح على الساحة منذ قامت "أمينة"، الناشطة التونسية في المنظمة، بتعرية صدرها مكتوبا عليه "جسدي ملك لي وليس شرفا لأحد" ونشر الصورة على الشبكة الاجتماعية الفيسبوك. زادت الأحداث تعقيدا منذ قرّر أنصار الشريعة في تونس إقامة مؤتمرهم السنوي الثالث في مدينة القيروان ومنع وزارة الداخلية لهُمْ، ما أنتج مُواجهات عنيفة بين رجال الأمن والمُوالين للحركة بحيّ التضامن بالعاصمة في اليوم نفسه. وما زاد الطين بلّة، حلول ركب أمينة بمدينة القيروان في اليوم نفسه وكتابة عبارة "فيمن"على جدار المقبرة المجاورة لمسجد عقبة بن نافع، ما جعل قُوّات الأمن تعتقلها. يكتمل السيناريو مع ثلاث ناشطات من منظمة فيمن، فرنسيّتان وألمانيّة وقفتا أمام المحكمة الابتدائية بمنطقة باب بنات بتونس عاريات الصدور يصرخن "حرّروا أمينة". 
أحدث التيار السلفي تغيّرا واضحا في المنظومة المجتمعية للبلاد، مع بروز اللباس "الديني" غير المتعارف عليه في تونس، وهو النقاب بالنسبة إلى النساء، أما أمينة الناشطة في حركة فيمن، فقد أحدثت زعزعة لمفهوم الجسد أخلاقيا، من خلال محاولة خلق فكرة "جسدي ملك لي وحدي". إنه شكل جديد للتعبير، وذلك بعد تركيز مفهوم الحرية، هذا المفهوم الذي مازال يعرف لُبساً في تطبيقاته واختلافا في تقدير حدوده.
الأسئلة الممكن طرحها الآن، هل أنّ سقف الحريّات في تونس ما بعد الثورة، أو تونس حكومة الترويكا، أيْ تجربة الديمقراطية في مجتمع خارج لتوّه من عقود من حكم الحزب الواحد، صار لا حدود له؟ أم أن المجتمع المُعتدل في أغلبيته كان ينتظر انفجارا للخروج من صمتِه، انطلاقا من المظهر الخارجي؟
" وكالة أخبار المرأة "، حاولت أن تُميط اللثام عن مفهوم اللباس في تونس كطريقة تعبيرية للمرأة في مجتمع يتلمّس خطواته نحو الحرية، من خلال تحليل ظاهرتين، تعرية الصدر لحركة "فيمن"، ولبس النقاب بالنسبة إلى النساء المنتميات للتيار السلفي. ومحاولة فهم هاتين الظاهرتين والعلاقة بينهما إن وجدت، وذلك عبر آراء مجموعة من المختصين في عديد المجالات، كما اعتمدنا على آراء بعض المواطنين، للتعمّق في هذه الأشكال التعبيرية المرتبطة ربما بفترات سياسية مُعينة.
إن الحرية التي تعرفها تونس، مع أول تجربة لانتخابات "ديمقراطية"، أسست لأنماط فكرية كانت مُغيّبة على الساحة المجتمعية، ولم تطفُ على السطح إلا في الآونة الأخيرة. لنستطيع فهم مسألة حرية اللباس، كان لزاما علينا معرفة مدى سقف الحريات اليوم في تونس بشكل عام. تجيبد.فتحية السعيدي/ أستاذة علم الاجتماع، عضوة المكتب التنفيذي للمسار الديمقراطي الاجتماعي، عن تساؤلنا :"بداية، لنتفق أن شعارات إطلاق الحريات لا زالت مطلبا ومطمحا لكل التونسيات والتونسيين، كثيرة هي الشعارات المنادية بالحرية والتي تمّ رفعها على امتداد فترة طويلة من تاريخنا المعاصر، ولكن نشير إلى أن شعار المطالبة بالحرية قد انتقل تدريجيا من مطلب صاغته وبلورته النخب السياسية والنشطاء في الحقل المدني إلى مطلب اجتماعي نما وتطوّر في متن الحراك الاجتماعي الذي عرفته بلادنا في الفترة التي سبقت وعقبت 14 كانون الثاني. وعليه، أصبحت الحرية مطلبا اجتماعيا يخص كل الشرائح الاجتماعية بمختلف تكويناتها. هذا المفهوم، وهو مبدأ في حقيقة الأمر من مبادئ الثقافة الديمقراطية، قد أسيئ فهمه، للأسف، من قبل العديد من الأفراد ومن الجماعات المتشكلّة، فاستُبيحت بذلك الفضاءات العامة جميعها، وشهدنا نوعا من التسيب ومن الخروج عن القوانين وعن الأعراف وعن كل المعايير الاجتماعية التي تشكّل إطارا عاما للجميع. فالحرية ما لم ترتبط وتتلازم بالمسؤولية تؤسّس للفوضى ولكل ضروب التسيب الاجتماعي. فأن تكون حرّا يعني أن تكون إنسانا متملكا لذاته ومتحرّرا من كل صنوف الاستعباد أو التبعية Aliénation أو التشيّئ Chosification، لأن الحرية استبطان حقيقي لأحد معاني الوجود الإنساني في كلّيته لا في جزئيته، وأبرز معاني الحرية هي حرية الفكر والمعتقد والضمير. هذا المعنى للحرية، نجده غائبا عند الكثيرين وما يسود اليوم من فهم للحرية هو فهم بدائي لها، فَهم في المستوى الأدنى لما تعنية الذات الحرّة، وهو ما يفسّر جميع الانفلاتات التي شهدناها في المجتمع بعد 14 كانون الثاني، سواء انفلات إعلامي أو أمني أو انفلات اجتماعي أو غيره. ضمن هذا الإطار أنزّل استفهامك، وأنا أؤكد بأنه لا سقف للحرية إلاّ المسؤولية وما يضبطه القانون بصفته يمثل عقدا اجتماعيا لأي مجموعة بشرية، لذلك، وكما لاحظ كل المتابعين للشأن السياسي بأن أكثر اللجان التأسيسية التي شهدت عمليات شدّ وجذب قد كانت لجنة الحقوق والحريات في المجلس الوطني التأسيسي، ولا يزال الجدل إلى اليوم قائما حول ضمان الحريات العامة والفردية وعدم الحد منها في مشروع دستور تونس الجديد..."
"الناس ينظرون أولا إلى صدورنا ومن ثمّ إلى لافِتاتنا" آنا غوتسول

يعتبر اللباس أيضا شكلا من أشكال الحرية، على اعتبار أنه لم يعُد قماشا للستر فحسب، بل أصبح خطابا له دلالاته الثقافية والإيديولوجية والدينية. وكما يمثل اللباس خطابا تواصليا، يمكن أن يوجِّه العُري خطابا سياسيا فيه تحدٍّ للعُرف الاجتماعيّ. إنه بالنسبة إلى حركة فيمن نوع من التحدّي والنضال في سبيل قضية المرأة. لكن، تاريخيّا، وحسب مؤسِّسة حركة فيمن "آنا غوتسول": "فكرة التظاهر عاريات الصدر لأعضاء الجمعية أتتْ صدفة، أثناء التظاهر للحركة عام 2009 حين كشفت الناشطات عن ظهورهنّ العارية وقد كتبت عليها شعارات، إلا أن أحد المصورين التقط لهنّ صورا من الخلف، ونشرت الصور في مجلة أكرانية ضخمة، عندها أدركْن أن الوسيلة الوحيدة للفت الانتباه بشكل كبير بشأن مشكلة ما هي الاحتجاج "عاريات الصدور".
هذه الطريقة، غير المُعتادة، لإعلان رفض النساء لوضعهن وإدانة الشعور بالتفوّق الذكوري في المجتمع، هي نوع من محاولة لفت الانتباه "ليس لدينا الكثير من المال لتطوير حركتنا، لكن لدينا أجسادنا وأدمغتنا وحسن الابتكار، فالناس ينظرون أولا إلى صدورنا ومن ثمّ إلى لافِتاتنا"، تقول غوتسول.
وتحلّل د.فتحية السعيدي حركة فيمن من وجهة فلسفية قائلة :"في البداية، لنقر بأن الأسلوب النضالي لحركة فيمن أسلوب استفزازي ولكنه أسلوب يدعو ضمنا إلى موضعة سؤال الجسد ضمن رؤية فلسفية شهدت تطورها مع فلاسفة الفينومولوجيا التي تعطي قيمة للجسد بصفته مؤسسا للمعرفة وبصفة جسدا يتواصل ويتفاعل وحاملا لدلالات غير تلك الدلالات التي منحته إياها الأخلاق والأديان جميعها. فقد اعتبر الجسد في جميع الثقافات والأديان مدنسا وتمّ تحقيره والحط منه وفي الفلسفة الفينومولوجية، الجسد هو مركز تشع منه المقاصد، هذا التوصيف لأحد أبرز الجذور الفكرية لحركة فيمن لا يشرّع لأسلوبها النضالي لأنه بالإمكان إعلاء قيمة الجسد دون التعرّي ودون خرق للمعايير الاجتماعية، ثمّ إنّ هذه الحركة لا تمارس عنفا ماديا ولكن بوجودها في مجتمعات محافظة أو مجتمعات يهمين فيه العامل الديني، تصبح ممارسة لنوع من العنف الرمزي بحكم خرقها للمعايير الاجتماعية للمجتمع".
هذه الحركة النسوية النضالية، تعتبر جديدة، أو يمكن وصفها بالغريبة، على مجتمع مُسلم كالمجتمع التونسي، تحكمه أخلاقيات الدين كأساس للحياة داخله، وقدر أدنى من الاحترام للمظهر الخارجي بما فيه من مفهوم "الستر" و"الحياء" واحترام الخصوصية لبصر الآخر. يقول الأستاذ المحامي حازم القصوري في هذا الإطار، أن الحركة النسوية الراديكالية ولدت في بيئة معينة وسياق اجتماعي وسياسي واقتصادي خاص، مُردفا "وعليه ليس من الحكمة استنساخ تجربة فيمن في تونس، لأن تجربة التونسيات لها تاريخها النضالي الضارب في التاريخ منذ بداية العشرينات مثل بشيرة بن مراد وتوحيدة بالشيخ وغيرهنّ من الرائدات في هذا الميدان، اللواتِ سجّلن نضالاتهنّ ضدّ المستعمر وضد القوى الظلامية في تونس دون التصادم مع الشعب التونسي ونُخبُه." هنا يعود القصوري إلى أمثلة من رجال نادوا بتحرير المرأة في تونس وآمنوا بقضيتها خلال حقبة الاستعمار "أذكر ما قاله الطاهر الحداد في مقدمة كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" سنة 1929 "المرأة أمّ الإنسان"، بالإضافة إلى ما كتبه الشيخ المجاهد عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري حول إدماج المرأة في التعليم والدورة الاقتصادية وأهمية إصلاح المنظومة التعليمية والفكر الديني، فحسب مناضلي الحركة الوطنية في تونس لا مجال لتحرير الوطن دون تحرير المرأة. إذن وفق هذا التراكم التاريخي لا تحتاج نساء تونس لدروس من منظمة فيمن أو غيرها". 
أما قضية الفتاة التونسية أمينة، أو كما عُرفت "أمينة تايلر"، فهي حسب رأي الأستاذ القصوري "قضية سياسية بامتياز، ولا يمكن محاسبة طفلة تونسية على أفكارها، حتى وإن انتسبت إلى منظمة فيمن. ستظل تونسية ويجب الأخذ بيدها وتغليب لغة الحوار معها كما غلّبناه من قبل مع السلفيين، فهي لم تأت من المرّيخ".
"(النقاب) وجد في زمن الاستعمار حرية لم يجدها بعد الاستقلال"

بالنسبة إلى النقاب، يقول الله تعالى :"وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنّ" النور:31. إن جمهور العلماء من الصحابة ومن تبعهم بإحسـان فسـروا قوله تعالى في السـورة: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهـر منها) بأنه الوجه والكفان، أو الكحل والخاتم وما في معناهما من الزينة. وقد ذكر الحافظ السيوطي في كتابه "الدُّر المنثور في التفسير بالمأثور" جملة وفيرة من هذه الأقوال. وهذا فيه تأكيد على أن النقاب ليس فرضا في الإسلام. من جهته، يرى الدكتور علي جمعة مفتي مصر، أن ارتداء النقاب للمرأة المسلمة هو من قبيل العادات عند جمهور الفقهاء، بناء على أن وجه المرأة ليس بعورة. من جهة أخرى، نقل العلامة ابن مفلح عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله :"وكشف النساء وجوههن يراهن الأجانب، غير جائز"(الآداب الشرعية والمنح المرعية1/ 193). ما يهمنا في مسألة النقاب ليس وجوبه من عدمه، وإنما كونه مظهرا لم يكن شائعا لدى المرأة التونسية من قبلُ.
لقد عرفت المرأة التونسية قبل الاستقلال ما يُسمّى بالخامة، وهي قطعة قماش تغطي وجهها فلا يظهر منه إلا العينين، مع ستر كامل الجسد بالسفساري ذو اللون السُّكري. لكنها تخلت عنها عند نهاية الاستعمار، وبداية الدولة التونسية الحديثة في العهد البورقيبي، وحادثة تعرية بورقيبة لرأس امرأة ونزع السفساري عن شعرها معروفة، وتثبت أن المرأة التونسية منذ ذلك العهد عرفت مظهرا جديدا، يتماشى والدولة "الحديثة" وما بدأت تحظى به المرأة منذ ذلك العهد من حقوق وحريات. لكن أستاذة اللغة العربية فوزية بو حجيلة تقول في هذا الإطار :"بعد الاستعمار، لم يجد المجتمع التونسي خصوصيته كعربي مسلم تتجلى في لباسه سواء كان ذكرا أم أنثى مع ظاهرة العداء للنمط التقليدي في الفكر واللباس من طرف النخبة. إذ عُدّ كل متشبث بالعروبة والإسلام متخلف بل ومتسبب في التخلف الذي جرنا للاستعمار وكل مقاومة لهذا النمط فكرا ولباسا إنما هو من الأسباب الرئيسية للقطع مع التخلف وأسباب الضعف وهو سبيل التطور والحداثة. في حين أن الطرف الآخر (النقاب) وجد في زمن الاستعمار حرية لم يجدها بعد الاستقلال العسكري الذي جلب معه المفاهيم السابقة. فاعتبروا بلبس النقاب أنهم -على عكس ما ينظر به غيرهم من أنه سلب للحرية -استعادوا حرية كانت مسلوبة لعقود."
أما موقف المجتمع المدني من النقاب كما أخبرنا الأستاذ القصوري "فجمعية حرية وإنصاف تعتبر النقاب حرية، في حين ترى الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات أن النقاب يطمس الهوية ويؤكّد على فكرة المرأة كعورة. من جهة أخرى، اعتبره الأستاذ الجامعي حاتم الشلّي حائلا دون التواصل الذي يتطلّب معرفة ملامح الآخر وردود أفعاله تجاه مُحاوره."
"المشرّع التونسي يعمل حسب مقتضيات المرحلة السياسية في مسألة اللباس"
كانت الحكومة التونسية تمنع الحجاب في فترة حكم بن علي وبورقيبة من قبله، وكانت المحجبات مطالبات بالتوقيع على التزام في المراكز الأمنية لنزعه، وهو ما كان يفرضه المنشور عدد 81/108 المؤرخ في 18/09/1981 المتعلق بمنع ارتداء الحجاب في المؤسسات العمومية. يقولالأستاذ حازم القصوري عن هذه المسألة: "هذا المنشور أسال حبرا كثيرا، ودخل في التجاذبات السياسية التي شهدتها البلاد وأثار لغطا، فهيئة 18 أكتوبر/تشرين الأول للحقوق والحريات (إطار عمل سياسي شكلته عام 2005 عدة أحزاب وشخصيات تونسية معارضة لزين العابدين بن علي) طالبت بإلغائه بوصفه إجراءا تعسفيا يعرض النساء إلى التسلّط. الحجاب مسألة مرتبطة بالحرية الشخصية، لا يحقّ لأيٍّ كان التدخل فيها بالمنع أو الإلزام عن طريق الإكراه. في تلك الفترة تقابل الطيفين الإسلامي واليساري ليكونا ضدّ الديكتاتورية. تكلّم فقه القضاء الفرنسي عن هذه المسألة عندما أثير موضوع النقاب في فرنسا وتم منعه هناك نهائيا. والوضع في تونس ليس بمنأى عن الحراك الموجود هناك."
بشكل عام، "إن المخاض الذي تشهده البلاد هو مخاض طبيعي بعد تهاوي نظام سياسي وصعود نظام آخر برؤية وطرح آخريْن" وهو، حسب الأستاذ القصوري "ما يجعل من الصعب تحديد نظرة قانونية صِرفة بخصوص تعرية الصدر من قِبل فيمن من جهة، والنقاب من قِبل التيار السلفي من جهة أخرى، بعد أن أقرّ الجميع بأنّ النظام القانوني الذي كان سائدا مردُّه دولة الاستبداد. لذلك لا يمكن الاستئناس به لمعالجة قضيّتيْن مستحدثتين في سياق تاريخي بعد الثورة، خاصّة وأننا بصدد مراجعة رأس القوانين، ألا وهُو الدستور، الذي سيحدد سقف الحريات وضوابط النظام العام"
كما يضمّ القانون التونسي قانونا لا يخصّ اللباس بشكل واضح، لكن فيه حسب الأستاذ القصوري إحالة على اللباس، وهو القانون الجنائي عدد 226 من المجلة الجزائية، ونصّه "التجاهر عمدا بفاحش يعاقب مرتكبه بالسجن وبخطية قدرها 200 فرنك". النص الذي تم على أساسه إحالة أمينة للقضاء، ومن هنا تحرّك موضوع اللباس والمظهر ليُطرح السؤال "هل نحن أحرار في لباسنا أم لا" كما يقول الأستاذ القصوري مُردفا "المشرّع التونسي، على عكس نظيره الفرنسي، كان يعمل حسب مقتضيات المرحلة السياسية، فهو لم يحدّد موقفه وبقي يراوح بين المنع واستعمال النصوص غير الدقيقة. لقد كان يتلاعب من خلال الثغرات القانونية". لم يُفرد القانون التونسي اللباس بنص واضح، وهذا نتيجة الإرباك المربوط بالتجاذبات السياسية ، وهذا يفسّر لماذا عكست المحكمة الإدارية هذه الإحالات في قضايا الحجاب، والتي أبرزها "القضية عدد 10976 التي رفعتها معلمة ضد وزارة التربية والتعليم بسبب رفتها المؤقت حسب المنشور 108 لرفضها نزع حجابها. قرار المحكمة في 25/06/2002 كان في صالح المعلمة، وكانت المحكمة الإدارية مستقلة في قرارها، واعتبرت المعلمة لم تخرق المنشور وقرار الطرد يتنافى وروح الدستور".
بين الجسد العورة والجسد السلعة

إن حركة فيمن مبنية بالأساس وحسب الناشطات فيها، على فكرة مناهضة الدين إذ تعتبره يتعارض مع حقوق المرأة، بينما تنبع فكرة النقاب حسب أصحابها من أسس دينية بحتة. بين فكرة العُري وفكرة الحجب هل يوجد نقاط تلاقٍ؟ 
تقول فوزية بوحجيلة " لا وجه للمقارنة بين التعري المخالف للفطرة في جميع الأديان والقوانين والتشريعات، وبين النقاب الذي كان الأصل في المجتمع العربي المسلم التونسي(السفساري والخامة) وكان السفور (تعرية الوجه) هو الاستثناء." مضيفة "لا أعتقد اليوم أنه يمكن الحديث عن الإفراط في حرية اللباس، إنها تموقع كلا النمطين داخل مجتمع يبحث عن وجود لا يمكن أن يفسر إلا من خلال رؤية ُثقافية مصبوغة بكثير من المحافظة في بلد عربي مسلم. القضية ليست مربوطة بالترويكا بل مربوطة بالثورة أساسا، لأن لا الترويكا ولا الحكومات التي قبلها هي التي أعطت هذه الحرية."
أما فتحية السعيدي فتقول :"نشير إلى أنه بعد 14 كانون الثاني طرحت من جديد حقوق النساء ومدى التمسك بما تحقق لها وبرزت على الساحة بشكل جلّي تجاذبات كثيرة حول هذا الموضوع. هي تجاذبات تعكس في حقيقة الأمر تصوّرات اجتماعية مترسخة في المخيال الجمعي، فنحن في واقع الأمر، حيال تصوّرين متباينين ظاهريا ولكن يلتقيان ضمنيا من حيث تقييم صورة المرأة التي ينظر لها كجسد وموضوع لا كذات فاعلة، فهي في التصور الأوّل، جسد عورة يجب تكفينه وقبره خوفا من "ضياع" القيم والأخلاق، وفي التصوّر الثاني، جسد سلعة قد تمّ تجريده في مواكبة لما فرضه اقتصاد السوق والتجارة من قيم وأساليب جديدة للحياة، فاُستخدم بامتياز في الاشهار وفي كل عمليات التسويق. كلا النموذجان يتحصنان وراء قيم ووراء ثقافة تشترك في النظر للمرأة من خلال الجسد وليس خارجا عنه. هاتان النظرتان شرّعتا لكل صنوف التمييز والعنف المسلّط على النساء، كما نظّرتا من خلال أدواتها المختلفة لاعتبار النساء مواطنات من درجة ثانية. والملفت للانتباه، ليس فقط تقاطع النظرتين واشتراكها في تحقير النساء بل انتماء النظرتين لنفس المعين أو الأفكار نفسها. فالقراءة الانتروبولوجية تبيّن بما لا يدَعُ للشك مكانا بأن أصل هذه النظرة متجذر في الأساطير وفي تاريخ الأفكار الدينية على اختلافها، إذ اعتبر جسد المرأة مدنّس وهو جسد الرذيلة والتبخيس. وعليه، أعتبر بأن أنصار الشريعة لا ينظرون للنساء بصفتهن ذوات أحرار ولكن بصفتهن تابعات وكائنات اختزلت وظيفتهن في الدور الانجابي لا غير. ومن خلال هذه النظرة، بدأ النزاع على المظهر وعلى طريقة لباس النساء والدعوة لتحجيبهن، وإزاء هذه الدعوات برزت ردود فعل متنوعة ومتباينة، ولعلّ أبرزها ردّة فعل حركة فيمن التي تقابل فعل الحجب بفعل العُري وهو ما أثار ضجة في المجتمع التونسي مؤخرا إثر الحركة الاحتجاجية لناشطات فيمن على خلفية اعتقال أمينة."
وتضيف د. السعيدي عن مسألة التناقض بين الفكرين :"نشير أن فعل العّري بالنسبة إلى حركة فيمن هو فعل احتجاجي انفعالي يراد من خلاله مناهضة التمييز الذي تعيشه النساء، وهو ما عبّرت عنه أولى الناشطات ضمن هذه الحركة التي انطلقت مع مجموعة من الأكرانيات المنتفضات والمدافعات عن حقوق النساء هناك. هذه الحركة تنتمي إلى فكر نسوي متحرّر يستعمل أسلوب الاستفزاز لتغيير التصوّرات حول المرأة وللاحتجاج على تقييم النساء بصفتهن موضوعا للجنس وللإغراء مما ينفي عنهن أدوارهن الاجتماعية المختلفة. في حين، دعوات أنصار الشريعة في علاقة بالمرأة ليست دعوة للباس فهي دعوة لتغطية الجسد كاملا وتحجيب المرأة بصفتها عورة تثير الغرائز."
هل يمكن اعتبار حركة فيمن وتيار السلفيين مشتركان في طريقة التعامل مع الجسد من خلال فكرة العري أو الحجب؟ تجيب د. السعيدي :"في هذا المستوى من التحليل، أميز بين مسألتين مختلفتين جوهرا ومضمونا، فأن نضع أنصار الشريعة في نفس الخانة مع حركة فيمن بصفتها تمثل الوجه الآخر لنفس العملة كما يروّج لها اليوم فهذا أمر مغلوط، لماذا؟ أوّلا لأن طبيعة الحركتين مختلفتين، ومنهج التعبير عن أفكارها مختلف، كما أن السياق المنتج لكل منها في تباعد كبير، فلئن تأسست حركة أنصار الشريعة ضمن بيئة فكرية منغلقة وفي إطار حراك اجتماعي دولي يؤسس للإرهاب والعنف، ويميز بين البشر على أساس الدين والمعتقد وينصّب نفسه "حاميا للدين وراعيا له" وينظّر لتحجيب النساء ويختزل أدوارهن، فإن حركة فيمن قد تأسست ضمن حراك اجتماعي آخر مختلف تماما يناضل ضد كافة أشكال التمييز ضد النساء ويدعو إلى تغيير النظرة للجسد وهو ما عبرت عنه الشعارات التي ترفعها ناشطات فيمن خلال احتجاجاتهن، من نوع "جسدي ملكي ولا يمثل شرفك أنت" ومن نوع "هذا جسدي ولا قيمة لأخلاقكم"...الخ. وعليه، يمكن أن نعتبر بأننا حيال نظرتين متقابلتين ومتناقضين حول ما تعنيه الأخلاق وحول ما يعنيه الجسد، فحسب نظر أنصار الشريعة الجسد موطن الخطيئة وهو أيضا رمز للأخلاق وللشرف وعليه وجب تغطيته وحمايته وهو بشكل من الأشكال ملك للعائلة وللمجتمع، وبحسب حركة فيمن، الجسد هو ملك شخصي لا علاقة للآخر به".
من خلال هذا التحليل تتأكّد فكرة التناقض التام بين فكريْن يتعايشان داخل مجتمع واحد وتحت سقف منظومة مازالت تخطو أولى خطوات الحرية والديمقراطية. هذا التناقض فكريّ بالأساس، لكنه لا ينبع من فراغ، فكلاهما مسؤول عن ظهور الآخر حسب د. السعيدي، إذ تقول :" أعتبر بأن ما قامت به أمينة هو بمثابة ردة فعل قصووية Maximaliste على ممارسات أخرى متطرّفة، تنحو نحو الأقصى المنغلق في الاتجاه المعاكس. فإذا كانت أمينة ظاهرة فردية لا تزال منعزلة في مجتمعنا فإن أنصار الشريعة ظاهرة جماعية غير منعزلة عن سياق أفرزه واقع ما بعد انتخابات 23 تشرين الأول/أكتوبر. وأن تعتبر مجرّد كتابة كلمة فيمن في إشارة للحركة التي تنتمي لها تدنيسا للمقبرة فهذا تأويل مفرط، لأن جميعنا يشهد كتابات متعددة على الجدران تتنافى مع الأخلاق ومع القيم، ولنفترض أن جماعة أنصار الشريعة كتبوا على جدار المقبرة اسم حركتهم، فهل بهذا سيكونون محل تتبع قضائي؟ وهل هذا يعتبر استفزازا أم ماذا؟ في النهاية، أشير إلى أن أمينة مثلها مثل هؤلاء الشباب الذي يحتج بأساليب مختلفة قد يراعي حينا ما هو متعارف عليه داخل المجتمع من مظاهر سلوكية، وقد ينفلت عن ذلك. وهي (أي أمينة) تشترك مع شباب أنصار الشريعة في هذا البحث عن الهوية التي يشعرون بضياعها، ويرغب كل طرف في تأكيدها وإثباتها وفق تصوّراته ومعتقداته، وهذه حالات انفعالية غير عقلانية بالنظر لسنهم (بين 17 سنة و20 سنة) وبالنظر لدرجة نضوجهم العاطفي والنفسي، لذا بالنسبة إلي أدعو إلى تنسيب النظرة لهذه الفئة العمرية والعمل على إعادة إدماجها في المجتمع لأنه يوجد تلاعب كبير بعقولهم وبموجهاتهم النفسية وباتجاهاتهم الإدراكية العامة". 
للوضع السياسي أيضا دور كبير في ظهور هذه الأشكال التعبيرية، حيث يقول الأستاذ القصوري :"حريّ بنا أن نقول بأن المواطن التونسي كغيره في العالم يعتبر اللباس والمظهر شكلا من أشكال الحراك الحضاري والثقافي. بالتالي، فإنّ علاقة اللباس والوضع السياسي والديني والاجتماعي وطيدة، لم تحِد عن القيام بدورها في المجتمع التونسي. وعندما نقتفي أثر اللباس التونسي، نجد الجِبّة والبَرْنُوس والكَبّوس (طاقيّة) التستوري الذي ارتبط بذهنية نضالية منذ بداية القرن العشرين، كأيقونة انتماء للحزب الدستوري في إطار الصراع مع المستعمر. ولعلّ هذا الرصيد التاريخي للشّاشية (طاقيّة تقليدية حمراء) "التستورية" والجِبّة والسفساري، لم يجعل الأرض خصبة لانتشار اللباس السلفي الأفغاني. إنه ظاهرة جراء القنوات الفضائية وتواصل التونسيين مع غيرهم في الخارج، وكذلك التغيرات السياسية والاجتماعية التي شهدتها تونس بعد الثورة، وهامش الحرية، وزاد صعود حركة النهضة إلى سِدّة الحكم من ظهور اللباس السلفي الأفغاني كشكل تعبيريّ عن رؤية ونمط حياة ومشروع سياسي."
للوضع الاجتماعي أيضا دور في ذلك، تقول أمان بالحاج علي، وهي أستاذة جامعية في الإعلامية، عن حرية اللباس في تونس :" أعتقد أن السؤال متشعّب والإجابة عليه تعتمد على السياق الذي وضع فيه، لكن وبشكل عام مسألة حرية اللباس طرحت منذ الأزل في جميع المجتمعات على اعتبار أنها تمثل جزءا من الحرية الشخصية التي تشمل حرية التعبير. في الواقع، إن طريقة اللباس ليست إلا طريقة للتعبير: التعبير عن الفرح، الغضب، وحتى التمرّد. باختصار، يمثل اللباس جزءا من شخصيتنا وطريقة تواصلنا مع العالم الخارجي. وبالتالي في إطار مجتمع، حرية التعبير فيه بدأت لتوها بالتأسس، وحيث المظاهر تسود أخلاقياتنا للحكم على الآخرين، كل شخص يفكّر أن يحيد عن "الطبيعي" المفروض من هذا المجتمع سوف يُهمّش مهما كانت نواياه (الرسالة التي يريد إبلاغها). من ناحية أخرى، وانطلاقا من وضعي كأستاذة، لاحظت أن مجتمعنا يتطور بخطى صغيرة نحو حرية اللباس. وبالتالي نلاحظ حضورا للباس الديني أكثر فأكثر (الحجاب أو النقاب)، لكن ما أجده مؤسِفا هو النقد بطريقة عنيفة لطريقة الآخر في لباسه، أو الحكم مُسبقا على شخص ما بالنظر إلى لباسه. أي أنّ التي تلبس اللباس الديني مثلا يجب أن تتصرّف بشكل "صحيح/لائق"، و المرأة التي لا تلبس الحجاب هي امرأة يسهل الوصول إليها، بينما يبقى المثل الذي يقول "اللباس لا يصنع الراهب" صالحاً في الحالتيْن."
"ماذا ستضيف تعرية الصدر للمرأة الريفية وللعاملة وكل نساء تونس المهمّشات اقتصاديا؟"
هذه الظواهر التي تعرفها تونس، يرجعها الغالبية للانفجار التحرري بعد الثورة، على اعتبار أن مفهوم الحرية لم يتبلور بشكله النهائي بعد، سواء من خلال القوانين كما تعرّضنا لذلك مسبقا مع الأستاذ القصوري، أو من خلال الحدود الاجتماعية، إذ تقول د. فتحية السعيدي :"من الطبيعي، أن تبرز كل هذه الظواهر الآن، فمن المعلوم أنه في فترات الثورات والانتفاضات تطفو على السطح كل الظواهر التي كانت كامنة أو بارزة بشكل ما ولكن دون تمظهر فعلي لها. وما حدث في تونس هو انفجار في مستوياته جميعها، السياسية والاجتماعية وغيرها، وهذا عادي في مجتمع كان واقعا تحت الاستبداد ولكن تدريجيا ستعود الأمور إلى نصابها. وهذا يتطلب جهود الجميع، فنشر ثقافة حقوق النساء والمساواة بين الجنسين واحترام المرأة واعتبارها ذاتا لا موضوعا يلزمه وقت تتطوّر خلاله الثقافة الديمقراطية وتتعمق وتدريجيا ليتمّ لذلك، التأسيس لكينونة اجتماعية فاعلة للنساء تحقق من خلالها إنسانيتها، عندها لا ينظر لها كونها جسد وجب حجبه أو جسد وجب تعريته فكلا هاتيْن الرؤيتين تتقاطعان في كونهما تريان المرأة من زاوية أحادية منغلقة بشكل من الأشكال، بينما يجب أن ينظر لها كذات لها خصوصيتها".
والبعض يربط المسألة بالتطرّف، مثل الكاتب والباحث التونسي مصطفى القلعي، إذ يقول:"إشكاليّة حريّة اللباس هذه تتطلّب تفكيك مفهوم التطرّف. فالتطرّف يعني الوقوف على الطرف أو الحدّ أو الشفا الأخير، ويأتي بعده السقوط. من هنا تتأتّى خطورته لأنّه إمّا أن يكون كما هو وإمّا أن يسقط. وهو لا يريد السقوط طبعا. ولذلك يلتجئ إلى العنف لفرض فكرته التي لا يقبلها الناس الميّالون بطبعهم إلى الوسطيّة والاستكانة إلى السائد المقبول من قبل الجماعة. والتطرّف في اللباس لا يخرج عن هذا التحليل. فالنقاب أي تغطية الجسد بالكامل لأسباب طهرانيّة عقائديّة منغلقة هو تطرّف في التسلّط على الجسد المنقّب وعلى محيطه الاجتماعيّ الذي يعيش فيه إذ يفرض عليه مشهدا لا يرغب في رؤيته. والفيمن أو تعرية الصدر هو أيضا تطرّف في الجهة المقابلة أي الحدّ الآخر. فهو إمعان في تقشير الجسد وكشفه في مجتمع محافظ بطبعه لا يقبل من عري الجسد إلاّ ما ألف رؤيته بين الجماعة. النقاب والفيمن هما قطبا التطرّف. وضحيّتهما هو الجسد أوّلا والمجتمع ثانيا باعتبارهما يفرضان رؤية "جماليّة" غير متّفق عليها فرضا. كما أنّهما يعتديان على تاريخ فنّ من الفنون هو فنّ الموضة والابتكار الذي يجتهد في تصميم الملابس وفي ابتكار الألوان وتناسقها مع الأقمشة والفصول والمناخات. كما يعتديان على اطمئنان الناس وعلى عاداتهم وتآلفهم مع أجسادهم. وهما أيضا يعاندان الحضارة البشريّة التي قطعت أشواطا في اتّجاه ترويض المتوحّش فيها حيث اكتسب الكائن البشريّ قيما مشتركة تتيح له إمكانيّات التعايش السلميّ وتنتج له منظومة الأخلاق التي يحتكم إليها لتنظيم حياته". 
أما فوزية بو حجيلة فتختم قائلة: "ختاما "فيمن " هي ظاهرة نشاز عن مجتمعنا وكل المجتمعات حتى التي نشأت فيها، أنا أفسرها على أنها احتجاج جسدي عنيف على فكر مخالف أو مغاير وأراها استفزازا منظما للفطرة السليمة ومخالفة لنواميس الانسان الكونية .والنقاب هو محاولة استرداد لحرية مسلوبة. الثورة أنتجت حريات بل زخما قد يصل حد الانفلات منها ما هو مساوق للنمط الثقافي ومنها ما هو دخيل بل محدث جديد الأحزاب -الاعلام -اللباس ..."
يطرح الأستاذ القصوري تساؤلا أخيرا: "ماذا ستضيف تعرية الصدر للمرأة الريفية وللعاملة وكل نساء تونس المهمّشات اقتصاديا؟" وهو تساؤل يحيلنا على المرأة التونسية البسيطة، التي لا تعرف من الثياب غير ما دأبت عليه من ثياب تسترها من البرد شتاء ومن وهج الحر صيفا.